مجلة قصيدة النثر

اصوات شعرية

آخر الأخبار

جاري التحميل ...

منحة الأبدية _ ميرفت أبو حمزة



      منحة الأبدية 



يخفقُ بجناحيهِ كلّما فرَّ الحمامُ وأَسرتْ به سماء ، ويموتُ بدلاً عنه كلَّما أصابتهُ رصاصة طائشة من بندقيةٍ ..
يرفعُ الغيمَ وينسكبُ برويةٍ ..برويةٍ كلَّما سمعَ نداءَ الأرض والفلاح .. يُؤنسِنُ الشجرَ ، والبيوتَ ، والطرقاتِ ، والمحطاتِ ، والبحارَ ، والأنهارَ ، ويرفعُ الراياتِ بالكلماتِ ...
يضرمُ النيرانَ في الجحافلِ والمحافلِ الممنهجة على الرياء ، كلماتهُ كأنها قنابل ..
ينزفُ من كل الجراحِ ليوحّدَ الوجعَ النبيلَ بين الأسودِ والأبيضِ .. لا عرقية ولا طائفية ولا مناطقية ، فكلها جراح !..
يفردُ الأوراقَ على طاولتهُ في المقهى القريب، وينقل الوجوهَ ما أوحتْ ملامحُها .. فوق السطور وخلفها ..
يُنادي : أيها النادل ...فنجان قهوة لي وآخر للغائبِ الحاضرِ ، يمجُّ تبغهُ ويغيم خلف دخانه فيختفي .. ويختفي المكان ، يأخذ مِعطفه بساعدٍ مثني نحو الصدر .. ويمضي يجرجرُ الآهاتِ  ، وخلفه تمضي روحُ المكان والزمان ..
يأخذهُ المساءُ في رحلةٍ ، ليطوفَ العالمَ كُلّه بحدودِهِ الممنوعةِ ، والمسموحةِ لا حافلة ولا تذكرة ولا حتى حقيبة .. وكأنه طيف لطيف..
يذهب إلى الليل أو يأتي إليه الليلُ لا فرق ..  يجرُّ نَحوهُ كلَّ آلهةِ الأزلِ  وفداحة الأبدِ بلونه الأزرق فيستوي أمامه الليلُ والنهار  .. تأتي إليه الشياطينُ والملائكة والأضواء والكواكب ..
يكثُرُ الزوارُ من كلِّ القبائلِ .. كلّ مَنْ ظهرَ ، وكلّ مَنْ اسْتَتَرَ ، الأحياءُ ولأمواتُ ، حتى الذينَ غابوا دونَ حجةٍ منطقيةٍ .. المسافرونَ ..أسرى السجونِ ، والمعتقلات ، حتى الذين ماتوا تحتَ الإقامةِ الجبريةِ .. 
في ساحةِ رؤاهُ .. حربٌ ، وعمادةٌ ، وعبادة ، وولادة ، ووجود .. تتصالحُ الأطراف كلّها بجرة قلم ، فيُفَضُّ النزاعُ .. أمام موقدٍ متوهج بلون البرد والرماد .. 
في شرعه : إرمِ نردَك لا تخفْ !.. ثمة قوانينُ جديدةٌ على لوحةِ الشطرنجِ خاصتِهِ ..! حاصرْ بخطوتك ..حرّك بفطرتِكَ .. إضرب بقبضتك أو إقلبِ الطاولةَ بما عليها  .. البيدق هنا بإمكانه أن يقول : كش ملك ..!
 يؤسرُ ، يُحرر .. يخسر ، يُنصر .. يُكسرُ، يجبر ..  يُنثر ، يُجمع .. يُمحى  يُكتبُ .. يُهدم ، يُبنى ..يموت ، يُبعثُ  ..  يرقص ، يهذي .. يصرخ ، يسقط .. ثم يأوي إلى سريره ، فيطير من تحتِ ملاءتِهِ الرصاصُ وتهربُ العصافير والفراشاتُ وأسراب النحل ،  وحده يعيش لحظته ، وحده يحوّل البردَ إلى قُبَل ، يحضنُ أنثاه البعيدةَ في الوسادة وينام متوسداً ذراعَ حروفها  .. فتتعرقُ على جسده ذؤابةُ المعنى العليّ .. تتسارع نبضاتُهُ .. ينتشي فيستفيق إلهاً ..
يرفع الصبحَ بجفنيه ، ويمسح مرآتَه ببخار ثغره الجاف ، فتلتمعُ على جبهته القصيدةُ ..

يقولون : مات !..   
أنا لا أصدق ..!  فكلَّ يومٍ أراهُ في الدفاتر ، وفي الكتب ، وبين كلمات الشعراء ، في الاستعارات ، والكنايات وفي المحافل، وخلف المنابر..
أسمع صوتَهُ واضحاً خلف أحجيةِ الصدى  ..! كلما ناح نايٌ ، وكلما غصّ وترٌ .. وأسمع صلاته كلما دُقّتْ أجراسُ الكنائسِ ، وكلما أذّنَ المؤذنُ .. 

يقولون مات !..
بالله عليكم من يصدّقُ موتَ شاعر ؟!..

أنا لا موتَ يأخذني ولا ميلادَ لي ، ففي كل قصيدة أُولَدُ وأموتُ ، وكلما مرَّ ذكري بينكم أُخلَقُ من جديد  .

_______________
ميرفت أبو حمزة 

عن الكاتب

شاعر

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى مدونتنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد المدونة السريع ليصلك جديد المدونة أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

مجلة قصيدة النثر